الجزيرة وغزة- كشف الحقيقة في وجه الاحتلال الإسرائيلي

تميزت قناة الجزيرة، كشبكة إخبارية عالمية، بتغطيتها الفريدة للأحداث المتسارعة في قطاع غزة، وتأثيراتها العميقة في مختلف أرجاء فلسطين، والمنطقة بأسرها، وصولًا إلى الساحة الدولية. وقد حققت الجزيرة هذه المكانة المتميزة بفضل امتلاكها منظومة إعلامية متكاملة تشمل شبكة واسعة من المراسلين، ومنصات إخبارية متعددة، وكفاءات صحفية وإعلامية عالية التأهيل. كما أن نقلها للأخبار من قلب الحدث، وبرؤية مباشرة، أكسبها ثقة الجمهور وجعلها الشبكة الإخبارية الأكثر حضورًا وتأثيرًا ومصداقية.
في هذا السياق المأساوي، وبعد مرور سبعة أشهر من الصراعات الدامية، وفي ظل ارتكاب قوات الاحتلال جرائم إبادة جماعية مروعة، وتنفيذ عمليات تطهير عرقي ممنهجة في قطاع غزة، والتي أسفرت عن استشهاد وإصابة ما يزيد على 110 آلاف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء، اتخذت حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة، برئاسة بنيامين نتنياهو، قرارًا جائرًا بتاريخ 5 مايو/أيار، يقضي بإغلاق مكتب قناة الجزيرة في فلسطين المحتلة، ومنعها من ممارسة عملها الإعلامي، ومصادرة جميع معداتها وتجهيزاتها. وقد وصف رئيس حكومة الاحتلال قناة الجزيرة بأنها "محرضة"، بينما زعم وزير الاتصالات شلومو كرعي أنها "بوق" لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
الخوف من الحقيقة
يكمن جوهر مشكلة قناة الجزيرة مع الاحتلال الإسرائيلي في التزامها بنقل الحقيقة المجردة، وملاحقتها أينما وجدت، حتى في خضم المعارك الضارية. إن استشهاد العديد من صحفيي الجزيرة في الميدان، جراء نيران قوات الاحتلال الغاشمة – على سبيل المثال: شيرين أبو عاقلة، وسامر أبو دقة، وحمزة الدحدوح، بالإضافة إلى إصابة وائل الدحدوح واستشهاد عدد من أفراد عائلته في قصف إسرائيلي استهدف منزلهم في المنطقة الوسطى من قطاع غزة (التي زعم الاحتلال أنها منطقة آمنة) – إنما هو دليل قاطع على مصداقية القناة وتأثيرها البالغ في الرأي العام على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
يائير لبيد، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، وهو صحفي وإعلامي بالأساس، قد أشار قبل عدة أشهر إلى أن نقل الصحفيين للأحداث بموضوعية وشفافية يخدم الفلسطينيين وروايتهم العادلة، ولذلك دعاهم جهارًا إلى تجنب نقل الأحداث بموضوعية مطلقة. هذه الصراحة الفجة تكشف بجلاء نزعة الاحتلال وسعيه الحثيث لاحتكار الرواية، وفرضها قسرًا في بيئته الداخلية التي تخضع لرقابة عسكرية مشددة على مدار الساعة، وكذلك في البيئة الدولية من خلال الوكالات والشبكات الإعلامية الكبرى التي يسيطر عليها الممولون الذين تربطهم علاقات وثيقة بالاحتلال وحلفائه في الغرب عمومًا.
لطالما كان احتكار الرواية الإعلامية سمة ملازمة للاحتلال؛ وذلك بفضل ما يمتلكه من إمكانات هائلة، وعلاقات واسعة، وجماعات ضغط نافذة في كبرى الشركات الإعلامية والقنوات التلفزيونية والوكالات الدولية. هذا النفوذ الواسع كان سببًا رئيسيًا في نجاحه المتواصل في ترويج روايته المضللة. وبسبب هذا النفوذ أيضًا، اندفعت العديد من القنوات والوكالات، وفق الأعراف السائدة في واشنطن والعواصم الأوروبية تحديدًا، إلى تبني الرواية الإسرائيلية بشكل أعمى في الأيام الأولى من معركة "طوفان الأقصى" دون أدنى تحقّق أو تدقيق. ولكن سرعان ما انكشف زيف هذه الرواية أمام الرأي العام الدولي، بفضل الجهود المضنية التي بذلتها قناة الجزيرة والعديد من المؤسسات الإعلامية المستقلة. وتهاوت أكاذيب الاحتلال في العديد من المواقف والتفاصيل؛ كما تجلى في انكشاف زيف ادعاءات الاحتلال بقتل كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية لعشرات الأطفال في مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبالمثل، انكشف كذب رواية الاحتلال عندما قام بتدمير مجمع الشفاء الطبي ونحو 32 مستشفى ومركزًا طبيًا بذريعة استخدامها مقرات وغرف عمليات عسكرية للمقاومة، ليتبيّن لاحقًا أنها مجرد دعاية رخيصة تهدف إلى تدمير القطاع الطبي، والمعالم الحضارية في قطاع غزة، بهدف تنفيذ مخطط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، الذي أكدته ووثقته العديد من المؤسسات الدولية الموثوقة.
كانت شبكة قناة الجزيرة من بين المؤسسات الإعلامية الكبرى التي استطاعت كسر هذا الاحتكار، وتقديم روايتها بمصداقية عالية من قلب الحدث في قطاع غزة. لقد نجحت الجزيرة في تفكيك الرواية الإسرائيلية المسيسة والمغلوطة التي يتم ترويجها في مصانع الدعاية الإسرائيلية، وإيصال صوت الحقيقة إلى كل مكان. وبذلك، أصبحت القناة، في نظر الاحتلال، خصمًا لدودًا له وللرواية الإسرائيلية، مما استدعى محاولة إسكاتها وإقصائها عن نقل الحقيقة والمعلومة من قلب الحدث.
مجزرة الصحفيين
إن فشل الاحتلال الذريع في منع قناة الجزيرة من العمل في قطاع غزة، دفعه إلى اتباع أسلوب خسيس آخر، وهو استهداف صحفييها بشكل مباشر، وكذلك استهداف جميع الصحفيين الآخرين العاملين هناك، حتى بلغ عدد الشهداء من الصحفيين ما يقارب 141 صحفيًا حتى هذه اللحظة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وعند مقارنة هذا العدد الهائل من الشهداء الصحفيين في قطاع غزة بعدد القتلى من الصحفيين في الحرب العالمية الثانية، والذين بلغ عددهم 69 صحفيًا قتلوا خلال 6 سنوات من المعارك الطاحنة التي أودت بحياة عشرات الملايين من البشر في أبشع حرب شهدها التاريخ الحديث، فإننا ندرك حجم الوحشية التي يقترفها الاحتلال، والمجزرة المروعة التي يرتكبها بحق الصحفيين، وحرية الصحافة.
إن مجزرة الصحفيين في قطاع غزة، بدلًا من أن تحول دون وصول المعلومة والصورة إلى العالم، تحوّلت إلى دافع قوي، يدفع جيلًا كاملًا من الشباب إلى البحث عن الحقيقة بكل الوسائل الممكنة عبر شبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة، على الرغم من سياسات التضييق الممنهجة على الرواية الفلسطينية، ومحاربة العديد من التطبيقات للمحتوى الفلسطيني، مثل فيسبوك، وإكس، وإنستغرام.. بل وصل الأمر إلى حد قيام المشرّعين في الكونغرس الأميركي بسنّ قانون يحظر تطبيق تيك توك الصيني في أميركا؛ بذريعة حماية الأمن القومي الأميركي، ومعلومات المستهلكين الأميركيين، الذين وصل عدد المشتركين منهم في هذا التطبيق إلى نحو 102 مليون أميركي في عام 2023.
لقد تحوّل تطبيق تيك توك، كنموذج حي في عالم التطبيقات الرقمية، إلى وسيلة فاعلة لنقل المعلومات والأخبار، حيث بلغت نسبة المشاهدين للمنشورات الداعمة للقضية الفلسطينية أربعة أضعاف نسبة المشاهدين للمنشورات الداعمة لإسرائيل في ظل العدوان الغاشم على قطاع غزة. كما بلغت نسبة الشباب دون سن الـ 35 الذين يتابعون الرواية الفلسطينية نحو 87%، في حين بلغ عدد المستخدمين النشطين في هذه المنصة نحو مليار إنسان شهريًا، ما يشير بوضوح إلى قدرة الشباب، عبر شبكة الإنترنت، على نشر الحقيقة والوصول إليها بشكل جماعي، متجاوزين بذلك تاريخ وإمكانات المؤسسات الإعلامية التقليدية الكبرى في احتكار المعلومة.
انهيار السردية والشرعية
إن قرار إغلاق قناة الجزيرة، يعكس حالة الضعف الشديد التي يعاني منها الاحتلال الإسرائيلي وقيادته المأزومة، والتي باتت تتصرف بطيش وتهور، وتقوم بردود أفعال آنية غير منطقية؛ بسبب فشلها الذريع في تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب على غزة.
فعلى الرغم من أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية (الشاباك والموساد) قد حذّرت القيادة السياسية من مغبة اتخاذ هكذا قرار، لما له من آثار سلبية وخيمة على الوساطة القطرية بشأن ملف الأسرى واتفاق وقف إطلاق النار، ولما له من تداعيات سلبية كبيرة على سمعة إسرائيل وصورتها في العالم، إلا أن حكومة الاحتلال أصرّت على اتخاذ هذا القرار الأحمق، وهي تشاهد وتتابع التدهور المتسارع في سرديتها المضللة، والتآكل المستمر في صورتها البائسة في أعين الشعوب والشباب في أوروبا والولايات المتحدة، اللتين تعجان بالحراكات الطلابية المتصاعدة في عشرات الجامعات الأميركية والأوروبية العريقة، المناهضة للاحتلال ولانتهاكاته الجسيمة بحق الأطفال والمدنيين الفلسطينيين الأبرياء، والمنتصرة لحقهم المشروع في الحرية والاستقلال وتقرير المصير. كل ذلك يشير بوضوح إلى الخلل الفادح وعدم الاتزان الذي يعتري قرار الاحتلال وقيادته المتطرفة.
إن إغلاق قناة الجزيرة لن ينقذ قيادة الاحتلال من غضب الجبهة الداخلية المتزايد، وتراجع ثقة الجمهور الإسرائيلي فيها، بعد فشلها الذريع في تحقيق أهدافها من الحرب، وعدم اكتراثها بمصير الأسرى الجنود والضباط المحتجزين لدى حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، وذلك لحسابات شخصية ضيقة تتعلق بمستقبل بنيامين نتنياهو السياسي. هذا ناهيك عن التداعيات الكارثية للحرب على الاقتصاد المتهالك، والاستثمارات المتراجعة بنسبة كبيرة، علاوة على فقدان الأمن لدى مئات الآلاف من الإسرائيليين النازحين؛ بسبب استمرار الحرب في جنوب فلسطين وشمالها.
إن هذا القرار الجائر سيعمّق مأزق الاحتلال أمام الرأي العام الدولي الغاضب بشدة من إسرائيل وسلوكياتها المقزّزة وانتهاكاتها المستفزّة. فإغلاق وسيلة إعلامية تتسم بالمصداقية والمهنية، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن إسرائيل تخشى الحقيقة وتخشى انكشافها أمام الرأي العام العالمي الذي يتحرّك بقوة ويضغط على صنّاع القرار، لا سيّما في واشنطن والعواصم الغربية. هذا بالإضافة إلى شعوب المنطقة العربية التي تغلي غضبًا ضد الاحتلال وانتهاكاته المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، والمقدسات الإسلامية والمسيحية.
إن المأزق العسكري والسياسي والاقتصادي الذي يعيشه الاحتلال، وفشله الذريع في عدوانه على قطاع غزة، لن يتم علاجه عن طريق إغلاق مكاتب الجزيرة. بل إن العكس هو الصحيح تمامًا، فهذا القرار الأهوج سيؤدّي حتمًا إلى مزيد من الانهيار في سردية الاحتلال الزائفة التي تتهاوى بسرعة قياسية، خاصة مع وجود التقنيات الحديثة والآليات البديلة والمتعدّدة القادرة على نقل الصورة والمعلومة الحقيقية، والتي لا يمكن أن تحجبها أي سلطة احتلال أو قوة مستبدة مهما بلغت من جبروت.
إن توحّش الاحتلال، وارتفاع وتيرة قراراته اللاعقلانية الفاقدة للحكمة، ما هو إلا مؤشر ضعف واضح، ودليل على المأزق العميق الذي يعيشه، وانعكاس لشعوره بالخوف المفرط والاضطراب الجالب لقرارات خاطئة سترتدُّ حتمًا على كيانه الهش وعلى جسده العليل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وأسوأ قراراته على الإطلاق هي تلك التي تُفضي إلى فقدانه السردية والشرعية أمام الرأي العام، تلك الشرعية التي تشكّل له ضرورة حتمية للبقاء، لأنه كيان محتل عابر على هذه الأرض، وبدونها ستبدأ مسيرته الحتمية نحو الزوال.